الجمعة، 29 أغسطس 2008

شاهيناز


"استقراء الروائح التي تعجن المساحة الفراغية، أمر مرهق" - قالتها بامتعاض لم تستطع أن تخفيه من رائحة عرق الكمساري الذي عندما فطن إلى ذلك علّق نفسه على بوابة الحافلة واصطنع البلاهة। كنّا عندها أمام نصب عبد الفضيل ألماظ، وأنا متكئ على إحدى المقاعد الجلدية الساخنة بفعل حرارة رابعة النهار، أكتم ضحكة تكاد أن تخون شفتي।"هو شخصٌ طيّب ॥ والذي على قلبه على لسانه" فتدلى لسانه ذات منعطف بينما لم يظهر أنه يفعلها من أجلنا।




* كيف لكَ أن تحكم على الآخرين من خلال الرائحة؟!




كان السؤال ككرة الثلج المنحدرة من سفح ، تستدعي إجابتها إجابات على أسئلة أخرى لم تطرح بعد، فاكتفيت بهزّة كتف غير ملحوظة। "الأركسونا بدعة برجوازية" - فقط لأخرج من الحرج-، لم تكن شاهيناز ترى في جو الخرطوم النهاري خاصةً إلاّ مصيدة للمشاعر السالبة، لذا فقد كانت مستفَزة طوال الوقت. وفي منتصف الطريق، توقفت بطريقة حازمة، لتخبرني بأنها ألغت مشروع زيارتها لمنزلي الكائن في إحدى الضواحي البائسة.




في الخفاء، عندما كان طارق تمبول يحاول إقناع الآخرين بصوته مستغلاً أغاني مصطفى سيد أحمد وسيف الجامعة، كانت تعرض لي مهاراتها في التدخين، وكنتُ أتعجب كيف لفتاةٍ بفمٍ صغير كحبة الكرز البري أن تستقبل هذا الدخان لتعود فتخرجه من أنفها كتنين أسطوري مخيف। وتغمض عينيها في نشوة بادية. ما صدمني في نهاية العرض معرفتي بأن السيجارة كانت محشوة بالبنقو!! "الراحة للجميع" - فقط لتقمع فيني شبهة البدوي المتطرف الذي أخرج رأسه عندما فغرتُ فمي مثلما يفعل رحّالة مبتدأ يحاول عبور الصحراء الغربية على قدميه.




أعجبني سلوكها الاستقلالي، رغم أني كنت لا أكف عن التلّفت خشية أن يرانا أحد। ولا أدري لماذا كانت تتناوشني فكرة أن صدرها الممتلئ بالنيكوتين سيؤثر مستقبلاً على مذاق حليب الرضاعة، فكنت أشفق على أطفالها الذين كانت لا تنوي السماح لهم بزيارة الوطن بعد عمرٍ طويل. وبطريقة آثمة أخبرتني أنها سوف تعوّضني بليلة حمراء في منزلٍ بالقرب من الجامعة، دون أن نضطر إلى العبور فوق روائح العرق النتنة! الطُهر مسألة نسبية، بينما الإخلاص أمر إرادي مطلق. ربما كان هذا الاستنتاج متأخراً، عرفت ذلك من الآخرين فيما بعد.




كانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي أتذوق فيها الجنس بنكهةالبيتزا ، وربما كانت الأولى على الإطلاق التي أعرف فيها علاقة الجنس بالإضاءات الخافتة. ربما لبروليتاري مثلي أن يعتاد على ممارسة الجنس في الظلام ، واختبار الوقت قبل اختبار الدورة الدموية. هكذا عودتنا بنات الديم والسكن العشوائي! البيتزا والشمبانيا والجنس الأرستقراطي هي الأشياء التي لم تتكرر في حياتي بعد تلك الليلة،عندما ربّتت على صدري في امتنان بعد انتهاء الحوار الجسدي "عفارم عليك!" ولم أفهم سر ابتسامتها وهي ترتدي الروب فوق جلدها العاري. "لا تقلق سوف نعود حيث لن نجد فسحةً لمكالمة هاتفية حتى!" وبعد أسبوع سمعت أنها تزوجت وسافرت مع زوجها إلى إحدى دول الخليج.

لوحة بريشة لا أحد



ذلك اليوم لم يأخذ حذره، فليس من شأنها أن تمطر في مثل هذا الوقت من العام، لذا فإنه لم يغلق نافذة مرسمه. وفي الصباح وجدها ممسوحة وملطخة الألوان. ربما هبّت رياح شديدة مصاحبة للمطر غير المتوقع، فبات المرسم كما لو أنه تعرض لهجومٍ من قطط مشاكسة. لم يكن أي شيء في مكانه، فعلب الألوان منزوعة الأغطية كانت متناثرة على أرضية المرسم السيراميكية. "حسناً فعلت جوليا، فتنظيف السيراميك أسهل من تنظيف الموكيت" قالها وهو يحاول تهدئة نفسه، قبل أن يغادر منزله متجهاً إلى المستشفى المركزي حيث يعمل هناك. وقبل أن يلّف شاله الكاروهات حول رقبته، تفحص صندوق بريده فوجده فارغاً، فنفث من فمه هواءً ساخناً كمن يرمي أكياس رمل لتفريغ حمولة قارب صيد في عاصفة بحرية.


دخل من بوابة المستشفى الأتوماتيكية، واستقبلته نظرات المراجعين المرتجفة بخوف. يتكرر هذا الخوف كلما فُتح الباب الأتوماتيكي سامحاً للهواء البارد بدخول المستشفى الدافئة من الداخل مع كل زائر. بعضهم قرر قضاء بقية النهار داخل المستشفى خوفاً من الصقيع المفاجئ الذي حلّ في غير موسمه. بينما ألقى هو تحيته الصباحية على رجال أمن المستشفى أولاً ثم موظفة الاستقبال التي يشاع عنها أنها لعوبٌ شبقة، وأخيراً البدين الذي يقف عند مدخل متطرف يحول دون دخول غير الموظفين إلى الداخل. "كان الأجدر أن تكتب لافتة بدل وقوفك هذا" فابتسم الرجل البدين، وقال في سرّه "هذه اللافتة قد تغلق أربعة أفواه مفتوحة بشراهة"



كان مجرد عامل سنترال في المستشفى المركزي، وقلّة من عمّال المستشفى وأطبائه الذين يعرفون اسمه بالكامل، فقد كان صامتاً مكثراً من الصمت. كان يستاء عندما يرّن الهاتف ليقطع عليه تأملاته التي يستفيد منها لاحقاً في خلق موضوع لوحة جديدة. دائماً يضع رزمة أوراق بيضاء أمامه، ومقلمة لا تحوي إلا أقلام رصاص. كل ما يفعله أن يستوحي من الأصوات التي تمر عليه صورة وجوهها، وكيف يمكن أن تكون.


امرأة بصوت هادئ، تخرج الكلمات من فمها بوضوح، مخارج حروفها سليمة، ولكنها تبدو تعبة أو قلقة. يخمّن أن لون شعرها بني، وأنها ترتدي عدسة لاصقة متماشية مع لون شعرها. شاب ثلاثيني صوته أكبر من سنه – أو هكذا يتخيّل – يعاني من متلازمة لفظية تجعله يكرر حرفاً ما في كل مرة، يبدو أنه ذو شعر أسود كثيف، لا يرتدي نظارة، طويل القامة. ويمضي يومه يرسم الوجوه التي يتوقعها ويسمّيها.



يعود إلى منزله في المساء، ليجد أن الخادمة التي تأتي بعد انصرافه قد أعادت ترتيب المرسم، ولكنها – ككل مرة – لا تجيد وضع الأشياء في أماكنها كما ينبغي. ثمة لوحة في الجانب القصي من المرسم ما تزال مغطاة بقماشٍ أبيض. يرفع القماش بحذر، ويسحب كرسيه الذي بلا ظهر، ويحدق في اللوحة. رسمة لفتاة بلا عينين، لم يستطع أن يحدد شكل عينيها أو حجمهما أو حتى لونهما. بطريقة ما أحس أن عينيها هما ما يحددان اسمها، ولذا فقد تركت اللوحة دون تسميتها. كانت الفتاة التي بلا عينين تلك تشغل باله كثيراً. وكم تمنى أن لو عاودت الاتصال مرة أخرى، ولكنها لم تفعل طوال ثلاث سنوات.



ها هو البرد يختفي مجدداً، فتسكن الريح في أوراق الأشجار المجاورة، وفي مسامات الجدران والقرميد والآجر الأحمر. ورغم ذلك فما يزال لهب الشمعة يهتز كراقصة شرقية مكتنزة الجسم. يظل متمدداً على صوفا فضية دون أن ينزع حذائه، ويفكر. هو لا يفكر في تسمية اللوحة، بل في كونه لم يستطع أن يرسم عينيها. عشرون عاماً، وهو يمارس هوايته، دون أن يتعذر عليه أمر كهذا. فلماذا الآن، ولماذا هذه الفتاة بالتحديد! أشعل سيجارته واستنشق أول أنفاسها بشراهة، ثم نفثها في الهواء. كان الدخان يرسم خيوطاً في قماشة اللون الأسود المصاب بالضوء الباهت، فيتخيلها تارةً كلمات، وتارة وجوه.



تزحف على السيراميك مخلوقات ضوئية بانسيابية، فيلتفت ليرى جوليا تقف على باب المرسم "أهي اللوحة مجدداً؟" كان سؤالها قلقاً وموتراً لدرجة أنه لم يستطع الإجابة عليه. فتقدمت نحوه ومسحت على شعره "ربما كانت عمياء!" فالتفت إليها بحركة لا إرادية، وكأنها نطقت بهرطقة. حدّق فيها كثيراً ثم نهض إلى اللوحة وأمسك بفرشاته، وظل يبحث عن أنبوب اللون الأسود والأبيض والكأس التي يضع فيها الماء "هذه الخادمة اللعينة، تضع الألوان في غير أماكنها"



في الصباح، وقبل أن يغادر المنزل، وقف بكل ارتياح وفخر أمام لوحته التي انتهى منها بالأمس فقط. وتمطّى وهو يشعر بإنجازية عالية. أحس أنها اللوحة الأجمل له منذ عشرين عاماً. فتاة بعصابة سوداء. اكتشف أنها معبّرة أكثر مما لو كانت بعينين حقيقيتين. ولكنه كتب أسفل اللوحة "لا أحد "